مجتمع

آيفون 16: كل شيء جميل وصحي وغالٍ

ما تبيعه آبل أكثر من مجرد منتج، بل هو «أسلوب حياة» يلعب دائماً على المشاعر والعاطفة الإنسانية، وهي أكبر تجارة يقوم عليها الاقتصاد اليوم.

future آيفون 16

المكان: حديقة آبل. الزمان: كل عام تقريباً. المشهد: غرفة اجتماعات يملؤها أعضاء مجلس إدارة شركة آبل، يجلسون على الطاولة مفكرين، مع فريق تطوير المنتجات وفريق التسويق، ليس في شكل وتصميم الإصدار الجديد لآيفون 16، الهاتف القوي بأحدث الإمكانات المتاحة وبتقنيات الذكاء الاصطناعي، هذا ليس هدفاً وليس أمراً صعباً، لأنك قد تجده في منتجات وهواتف أي شركة أخرى.

ما فكر فيه أعضاء المجلس كان: «نحن شركة آبل، لذا منتجاتنا يجب أن تصنع الفارق في حياة المستهلك»، أو على الأقل تلك هي الرسالة التسويقية الأهم لدى شركة آبل.

ما يراه أعضاء المجلس أن هذا المنتج مجرد وسيلة ليحقق المستهلك أحلامه وطموحاته، وينجح في حياته الشخصية والمهنية، ويصل لأعلى منصب يمكنه الوصول إليه في حياته العملية.

بالطبع، كان كل ما ذكرناه على سبيل المبالغة، وبالطبع كان السيناريو السابق خيالياً، لكن الرسالة الناتجة منه ملموسة ونراها فعلاً كل عام مع إصدار منتجات شركة آبل الجديدة في فصل الخريف.

أسلوب حياة

ما تبيعه آبل أكثر من مجرد منتج، بل هو أسلوب حياة كامل، وهي تلعب دائماً على المشاعر والعاطفة الإنسانية. يرجع ذلك إلى حقيقة أن عالمنا اليوم قائم بالأساس على شيء واحد هو مشاعر البشر، تلك العواطف تحكم العالم، ببساطة لأن البشر يُنفقون أموالهم أساساً على الأشياء التي تُشعرهم بالرضا عن أنفسهم وعن الحياة، وبالتالي فكلما تمكَّنت من التأثير على عواطف ومشاعر الناس حول العالم، تراكم المزيد من الأموال داخل خزائنك، حتى تصل إلى أكبر قيمة سوقية في العالم، وتتجاوز 3 تريليونات دولار.

التكنولوجيا هي مجرد وسيلة لتلك الغاية، نحن نخترع التقنيات الجديدة من أجل الوصول إلى مشاعر السعادة، وشركة آبل هي الشركة الكبرى من حيث إثارة المشاعر الإنسانية، وهذا ما كانت تركز عليه بكثافة في أحداثها خلال السنوات الأخيرة؛ إذ تغذي آبل شعور المستخدمين بأن اقتناءهم منتجات الشركة سيجعلهم أشخاصاً أفضل.

ربما سمعت مقولة ستيف جوبز الشهيرة: «امنح الناس أدوات وسيفعلون بها أشياء رائعة» تتكرر خلال أحداث الشركة للإعلان عن منتجاتها. يمكننا أن نتفق أن المستخدم العادي لأجهزة آبل لا يقوم بأشياء رائعة بأجهزة الآيفون أو الماك بوك أو الساعة الذكية، وهو غير مطالب أصلاً بتلك الأشياء الرائعة، ولكن باستخدام كل الأدوات التسويقية المتوفرة والإعلانات والإبهار البصري، واختيار مصطلحات مختلفة للمزايا المعتادة التي نعرفها، تستحضر آبل بنجاح هالة غامضة حول منتجاتها لتجعلها تبدو أكثر جاذبية، بحيث لا يرى المستخدم نفسه مجرد شخص عادي يملك جهازاً عادياً، بل يصبح بوجودها شخصاً مختلفاً متفرداً بذاته.

لنأخذ حدث إطلاق آيفون 16 هذا العام كأقرب مثال حي؛ لم يكن الهدف من حدث آبل مجرد الإعلان عن أحدث هاتف آيفون أو الإصدار الجديد من الساعة الذكية أو سماعة إيربودز، بل يرتكز الإعلان على أن هذا الآيفون وتلك الساعة وهذه السماعة هي أجهزة تخدم مصلحة المستخدم وتساعده في حياته وتجعل كل شيء جميلاً ومريحاً وصحياً.

حتى طريقة إلقاء الكلمات في أثناء الحدث، ستجدها حديثاً متواصلاً مباشراً مع المستخدم؛ ميزات التصوير الجديدة تساعدك ببساطة على تخصيص صورك، واستعادة ذكرياتك الجميلة. انظر كيف تساعدك الساعة الذكية في الحفاظ على صحتك، وربما تحميك من الأخطار، وقد تبلغ عنك السلطات إن قررت السقوط فجأة!

كما أن الشركة أخذت الأمر لخطوة أبعد في الاهتمام بالمستخدمين، وأضافت إمكانية مساعدة ضعاف السمع في سماعتها إيربودز برو الجديدة، وكذلك أضافت مقياساً جديداً لتحديد اضطرابات التنفس أثناء النوم في الإصدار الجديد من ساعتها الذكية وتش سيريس 10.

بالطبع كل هذا الاهتمام بالمستخدم كان أقوى نقطة بيع لدى الشركة، لا يمكن لأحد أن ينكر هذا، ولسنا هنا للاعتراض على استراتيجية آبل منذ أن وضعها ستيف جوبز؛ لأنها - كما هو واضح - استراتيجية ناجحة للغاية، بل خلقت واحدة من أقوى وأضخم الشركات على مر التاريخ، وتلك الاستراتيجية الأقوى اتضحت من جديد في الإعلان عن ميزات الذكاء الاصطناعي التي ستقدمها الشركة في أجهزتها.

حقبة جديدة

منذ سنتين تقريباً، يشتعل العالم التقني بسبب تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي، شركات تسيطر وشركات تحاول اللحاق بها في هذا السباق المحموم، كل هذا وآبل تلتزم الصمت لفترة طويلة، حتى بدأ الجميع في الاعتقاد أن الشركة إما أصابها الشلل مما حدث، أو أنها تخطط لمفاجأة كبرى تتفوق بها على كل منافسيها دفعة واحدة.

حسناً، لم تخيِّب الشركة ظنهم، لكن ليس من حيث المفاجأة، بل من الناحية التسويقية ومحاولة صبغ تقنياتها للذكاء الاصطناعي بصبغة آبل الخاصة جداً، حتى إن الاسم الذي اختارته - استعد للمفاجأة - هو «ذكاء آبل - Apple Intelligence».

ليست المشكلة في اختيار الاسم طبعاً، لكن في محاولة تصوير تلك التقنيات بأنها مختلفة وتهتم بالمستخدم في المقام الأول، كما هي عادة الشركة. هذه المرة كان تركيزها على الخصوصية؛ لأن أكبر مشكلات الذكاء الاصطناعي التوليدي هي مشكلات تتعلق بالخصوصية وبيانات المستخدمين وكيفية استغلالها من الشركات الأخرى.

أو بمعنى أبسط قليلاً، يمكننا القول إن ذكاء آبل ليس اصطناعياً كما تقدمه باقي الشركات، ولكنه ذكاء شخصي ومخصص لما يحتاجه المستخدم، ويحافظ كذلك على خصوصية بياناته، أو هكذا تراه الشركة على الأقل.

وهو ما ذكرته الشركة عبر موقعها الرسمي بأنها: «صممت سلسلة هواتف آيفون 16 خاصة لمنظومة ذكاء آبل، وهو نظام الذكاء الشخصي سهل الاستخدام الذي يفهم سياق الحياة الشخصية بهدف تقديم الذكاء الاصطناعي المفيد والملائم، ويحمي خصوصية المستخدم في آن واحد».

وهو ما أكده كيان درانس، نائب رئيس قسم التسويق العالمي لأجهزة آيفون، قائلاً: «آيفون 16 وآيفون 16 بلس يمثلان بداية حقبة جديدة لهواتف آيفون مع ذكاء آبل الذي يمنح مستخدمينا تجارب قوية وذات طابع شخصي للغاية».

ذكاء آبل

لا يعد ذكاء آبل مجرد نظام ذكاء اصطناعي آخر، بل تضعه الشركة داخل مجموعة متكاملة من الميزات الجديدة التي تعد بتقديم التخصيص مع التركيز على معايير الخصوصية المرتفعة التي اشتهرت بها.

ستساهم هذه الميزات الجديدة في تحسين التعامل مع الإشعارات، وكتابة النصوص وتلخيصها، بالإضافة إلى تنفيذ عمليات متكاملة بين التطبيقات. وسيشهد المساعد الرقمي سيري في نظام التشغيل آي أو إس 18 تطوراً ملحوظاً ليصبح أكثر طبيعية؛ إذ سيتيح للمستخدمين إدخال النصوص والتحدث في الوقت نفسه، وسيتولى مهام متعددة مثل جدولة النصوص والتفاعل مع المهام المعروضة على الشاشة كتحسين الصور وتعبئة النماذج تلقائياً بمعلومات المستخدم الشخصية.

ما يميز نهج ذكاء آبل هو سعيه لكسب ثقة المستخدم عبر الابتعاد عن استخدام مصطلح الذكاء الاصطناعي في التسويق لهذه التقنيات. تحاول آبل بذلك تجنب الجدل المرتبط بالتحديات التي تواجه نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي لدى الشركات الأخرى، وأبرزها جمع البيانات بصورة عشوائية.

وهو ما أكده جادجو سيفيا، كبير محللي شركة إي ماركيتير المتخصصة في أبحاث السوق، قائلاً: «تخصيص الذكاء الاصطناعي هو الاستراتيجية التي تتبعها شركة آبل؛ لأن إدراك الشركة لمجال التكنولوجيا الاستهلاكية وكيفية تفاعل المستخدمين مع أجهزتها يمنحها الأفضلية مقارنة بتطبيقات وخدمات الذكاء الاصطناعي الأخرى التي تعتبر الخصوصية فكرة ثانوية».

على عكس المنافسين، مثل جوجل وأوبن إيه آي، الذين يعتمدون على كميات هائلة من البيانات المجمعة المخزنة على خوادم خارجية، تؤكد آبل أن معظم عمليات المعالجة لمنظومتها للذكاء الاصطناعي ستحدث داخل جهاز المستخدم نفسه.

بينما في المهام التي تتطلب قدرات معالجة أكبر، وعند الحاجة إلى الوصول إلى الحوسبة السحابية، تقدم آبل ميزة السحابة الخاصة، مما يضمن عدم تخزين البيانات على خوادم الشركة، وستجري عمليات تحقق مستقلة من خبراء للتأكد من ادعاءات الشركة المتعلقة بخصوصية البيانات، وبهذا تظل البيانات مشفرة وتُحذف بعد الانتهاء من المهمة، مما يقلل من أخطار الخصوصية.

فكرة المعالجة داخل الجهاز في ذكاء آبل هي أساس وعدها بالحفاظ على خصوصية المستخدم، كما أكد كريج فيدريجي، نائب الرئيس الأول لهندسة البرمجيات في آبل، حين قال: «لا ينبغي عليك تسليم جميع تفاصيل حياتك لتُخزَّن وتُحلَّل في سحابة ذكاء اصطناعي تخص شخصاً آخر».

تأمل الشركة في أن التركيز على الخصوصية في تسويقها سيكون السر وراء نجاح استراتيجيتها في تخصيص الذكاء الاصطناعي؛ لأن التخصيص من أبرز مميزات تقنيات الذكاء الاصطناعي حالياً؛ كلما فهم النموذج احتياجات المستخدم بعمق، زادت قدرته على توقع رغباته وتسهيل حياته بصورة ملحوظة.

ذكاء تسويقي

كذلك تركز الشركة هنا على نطاق وحجم نماذج الذكاء الاصطناعي؛ غالباً تمنح الشركات الأخرى الأولوية لجمع أكبر كمية من البيانات والمعلومات لتدريب نماذج لغوية ضخمة للغاية؛ لأن هذا ما يجعل روبوتات المحادثة مفيدة في الأساس.

بينما تسابق الشركات الأخرى الزمن لجمع أكبر كم ممكن من البيانات لتطوير نماذج لغوية ضخمة، تسير آبل على نهج مختلف أكثر عملية وتركيزاً، فهي لا تسعى لتطوير نماذج ذكاء اصطناعي هائلة تُغرق المستخدمين بتعقيداتها، بل تركز على أداء المهام الصغيرة والمفيدة التي يمكن للجهاز تنفيذها مباشرة. بهذا النهج تطور آبل نماذج ذكاء اصطناعي مدمجة وأصغر حجماً، ومصممة خصيصى لتلبية احتياجات مستخدميها اليومية بكفاءة ودقة، وفقاً لما تقوله الشركة عن منظومتها الجديدة.

عموماً، هذا التوجه ليس جديداً على آبل، فمنذ بداياتها وهي تتفرد بتقديم تجربة مستخدم سلسة، تحرر المستخدم من عبء التعامل مع التفاصيل التقنية المعقدة.

في النهاية، سنصل إلى الاستنتاج الواضح وهو أن ذكاء آبل ليس اصطناعياً فعلاً، بل ذكاء تسويقي.

تفضل الشركة دمج تقنيات الذكاء الاصطناعي بسلاسة داخل أنظمة تشغيل أجهزتها، ولهذا لا تهتم إن كان المستخدم يعرف أصلاً كيف تعمل تلك التقنيات أو لا يعرف، المهم أن يستخدمها ببساطة وسهولة، وهذا تحديداً ما تسوق له آبل دائماً في مختلف أجهزتها.

تلك الأجهزة المتطورة، وهذه التقنيات الجديدة، من أجلك أنت. أو ربما هذا ما يفكر فيه أعضاء مجلس الإدارة، وباقي الفرق في الشركة، على الأقل!

# آبل # آيفون # هواتف ذكية # تقنية

هينتون وهوبفيلد: نهاية شتاء الذكاء الصناعي
«هزيمة الآلة»: إعادة تقييم دور الفرد في حرب غزة
قنابل مميتة.. كيف انفجرت أجهزة «البيجر» في لبنان؟

مجتمع